سورة الأنعام - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)}
اعلم أن الدليل المتقدم كان مختصاً بأخذ السمع والبصر والقلب وهذا عام في جميع أنواع العذاب، والمعنى: أنه لا دافع لنوع من أنواع العذاب إلا الله سبحانه، ولا محصل لخير من الخيرات إلا الله سبحانه، فوجب أن يكون هو المعبود بجميع أنواع العبادات لا غيره.
فإن قيل: ما المراد بقوله: {بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} قلنا العذاب الذي يجيئهم إما أن يجيئهم من غير سبق علامة تدلهم على مجيء ذلك العذاب أو مع سبق هذه العلامة. فالأول: هو البغتة.
والثاني: هو الجهرة. والأول سماه الله تعالى بالبغتة، لأنه فاجأهم بها وسمى الثاني جهرة، لأن نفس العذاب وقع بهم وقد عرفوه حتى لو أمكنهم الاحتراز عنه لتحرزوا منه.
وعن الحسن أنه قال: {بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} معناه ليلاً أو نهاراً.
وقال القاضي: يجب حمل هذا الكلام على ما تقدم ذكره لأنه لو جاءهم ذلك العذاب ليلاً وقد عاينوا مقدمته، لم يكن بغتة ولو جاءهم نهاراً وهم لا يشعرون بمقدمته لم يكن جهرة.
فأما إذا حملناه على الوجه الذي تقدم ذكره، استقام الكلام.
فإن قيل: فما المراد بقوله: {هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون} مع علمكم بأن العذاب إذا نزل لم يحصل فيه التمييز.
قلنا: إن الهلاك وإن عم الأبرار والأشرار في الظاهر، إلا أن الهلاك في الحقيقة مختص بالظالمين الشريرين، لأن الأخيار يستوجبون بسبب نزول تلك المضار بهم أنواعاً عظيمة من الثواب والدرجات الرفيعة عند الله تعالى، فذاك وإن كان بلاء في الظاهر، إلا أنه يوجب سعادات عظيمة؟
أما الظالمون فإذا نزل البلاء بهم فقد خسروا الدنيا والآخرة معاً، فلذلك وصفهم الله تعالى بكونهم هالكين وذلك تنبيه على أن المؤمن التقي النقي هو السعيد، سواء كان في البلاء أو في الآلاء والنعماء وأن الفاسق الكافر هو الشقي، كيف دارت قضيته واختلفت أحواله، والله أعلم.


{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)}
اعلم أنه تعالى حكى عن الكفار فيما تقدم أنهم قالوا: {لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ} [الأنعام: 37] وذكر الله تعالى في جوابهم ما تقدم من الوجوه الكثيرة ثم ذكر هذه الآية والمقصود منها أن الأنبياء والرسل بعثوا مبشرين ومنذرين ولا قدرة لهم على إظهار الآيات وإنزال المعجزات، بل ذاك مفوض إلى مشيئة الله تعالى وكلمته وحكمته فقال: {وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} مبشرين بالثواب على الطاعات، ومنذرين بالعقاب على المعاصي، فمن قبل قولهم وأتى بالإيمان الذي هو عمل القلب والاصلاح الذي هو عمل الجسد {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا يَمَسُّهُمُ العذاب} ومعنى المس في اللغة التقاء الشيئين من غير فصل.
قال القاضي: إنه تعالى علل عذاب الكفار بكونهم فاسقين، وهذا يقتضي أن يكون كل فاسق كذلك، فيقال له هذا معارض بما أنه خص الذين كذبوا بآيات الله بهذا الوعيد وهذا يدل على أن من لم يكن مكذباً بآيات الله أن لا يلحقه الوعيد أصلاً. وأيضاً فهذا يقتضي كون هذا الوعيد معللاً بفسقهم فلم قلتم أن فسق من عرف الله وأقر بالتوحيد والنبوّة والمعاد، مساو لفسق من أنكر هذه الأشياء؟ والله أعلم.


{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن هذا من بقية الكلام على قوله: {لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ} [الأنعام: 37] فقال الله تعالى قل لهؤلاء الأقوام، إنما بعثت مبشراً ومنذراً، وليس لي أن أتحكم على الله تعالى وأمره الله تعالى أن ينفي عن نفسه أموراً ثلاثة، أولها: قوله: {لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله} فاعلم أن القوم كانوا يقولون له إن كنت رسولاً من عند الله، فاطلب من الله حتى يوسع علينا منافع الدنيا وخيراتها، ويفتح علينا أبواب سعادتها. فقال تعالى قل لهم إني لا أقول لكم عندي خزائن الله، فهو تعالى يؤتي الملك من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير لا بيدي والخزائن جمع خزانة، وهو اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء وخزن الشيء إحرازه، بحيث لا تناله الأيدي.
وثانيها: قوله: {وَلا أَعْلَمُ الغيب} ومعناه أن القوم كانوا يقولون له إن كنت رسولاً من عند الله فلابد وأن تخبرنا عما يقع في المستقبل من المصالح والمضار، حتى نستعد لتحصيل تلك المصالح، ولدفع تلك المضار. فقال تعالى: قل إني لا أعلم الغيب فكيف تطلبون مني هذه المطالب؟
والحاصل أنهم كانوا في المقام الأول يطلبون منه الأموال الكثيرة والخيرات الواسعة، وفي المقام الثاني كانوا يطلبون منه الاخبار عن الغيوب، ليتوسلوا بمعرفة تلك الغيوب إلى الفوز بالمنافع والاجتناب عن المضار والمفاسد.
وثالثها: قوله: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ} ومعناه أن الوقم كانوا يقولون {مَّالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى فِي الاسواق} [الفرقان: 7] ويتزوج ويخالط الناس. فقال تعالى: قل لهم إني لست من الملائكة.
واعلم أن الناس اختلفوا في أنه ما الفائدة في ذكر نفي هذه الأحوال الثلاثة؟
فالقول الأول: أن المراد منه أن يظهر الرسول من نفسه التواضع لله والخضوع له والاعتراف بعبوديته، حتى لا يعتقد فيه مثل اعتقاد النصارى في المسيح عليه السلام.
والقول الثاني: أن القوم كانوا يقترحون منه إظهار المعجزات القاهرة القوية، كقولهم: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعًا} [الإسراء: 90] إلى آخر الآية فقال تعالى في آخر الآية {قُلْ سبحان رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً} [الإسراء: 93] يعني لا أدعي إلا الرسالة والنبوّة، وأما هذه الأمور التي طلبتموها، فلا يكن تحصيلها إلا بقدرة الله، فكان المقصود من هذا الكلام إظهار العجز والضعف وأنه لا يستقل بتحصيل هذه المعجزات التي طلبوها منه.
والقول الثالث: أن المراد من قوله: {لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله} معناه إني لا أدعي كوني موصوفاً بالقدرة اللائقة بالإله تعالى. وقوله: {وَلا أَعْلَمُ الغيب} أي ولا أدعي كوني موصوفاً بعلم الله تعالى. وبمجموع هذين الكلامين حصل أنه لا يدعي الإلهية.
ثم قال: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ} وذلك لأنه ليس بعد الإلهية درجة أعلى حالاً من الملائكة، فصار حاصل الكلام كأنه يقول لا أدعي الإلهية ولا أدعي الملكية ولكني أدعي الرسالة، وهذا منصب لا يمتنع حصوله للبشر، فكيف أطبقتم على استنكار قولي ودفع دعواي؟
المسألة الثانية: قال الجبائي: الآية دالة على أن الملك أفضل من الأنبياء، لأن معنى الكلام لا أدعي منزلة فوق منزلتي ولولا أن الملك أفضل وإلا لم يصح ذلك.
قال القاضي: إن كان الغرض بما نفى طريقة التواضع؛ فالأقرب أن يدل ذلك على أن الملك أفضل، وإن كان المراد نفي قدرته عن أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة، لم يدل على كونهم أفضل.
المسألة الثالثة: قوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ} ظاهره يدل على أنه لا يعمل إلا بالوحي وهو يدل على حكمين.
الحكم الأول:
أن هذا النص يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يحكم من تلقاء نفسه في شيء من الأحكام وأنه ما كان يجتهد بل جميع أحكامه صادرة عن الوحي، ويتأكد هذا بقوله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يوحى} [النجم: 3، 4].
الحكم الثاني:
إن نفاة القياس قالوا: ثبت بهذا النص أنه عليه السلام ما كان يعمل إلا بالوحي النازل عليه فوجب أن لا يجوز لأحد من أمته أن يعملوا إلا بالوحي النازل عليه، لقوله تعالى: {فاتبعوه} [سبأ: 20] وذلك ينفي جواز العمل بالقياس، ثم أكد هذا الكلام بقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير} وذلك لأن العمل بغير الوحي يجري مجرى عمل الأعمى والعمل بمقتضى نزول الوحي يجري مجرى عمل البصير.
ثم قال: {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} والمراد منه التنبيه على أنه يجب على العاقل أن يعرف الفرق بين هذين البابين وأن لا يكون غافلاً عن معرفته، والله أعلم.

9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16